سافر محمود البدوى إلى موسكو فى صميم الشتاء " فى العاشر من شهر يناير 1973 " فى رحلة ثقافية بصحبة الشاعرين محمود حسن اسماعيل وصلاح عبد الصبور والأديب حلمى مراد . وحينما عاد كتب مقالتين نشرهما فى مجلة الثقافة الأولى بعنوان " فى بيت تشيكوف " والثانية تحت عنوان " إلى منزل بوشكين " يقول فيهما
السبت، ١ ديسمبر ٢٠٠٧
الجمعة، ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٧
موسكو
موسكو مدينة ضخمة ليس بها زحام
موسكو مدينة ضخمة وسكانها ثمانية ملايين نسمة ، ولكن ليس بها زحام ..
إن المتجول فى شوارعها يحس بالراحة والبهجة ، لأنه يتحرك بحرية وانطلاق على الأرصفة ، فلا زحام ولا شبه زحام حتى فى أثناء ساعات العمل فى النهار ..
ان شوارع موسكو واسعة جدا .. والمترو الذى ينطلق تحت الأرض كالسهم .. يبلع فى جوفه يوميا خمسة ملايين من السكان فلا تراهم على ظهر المدينة إلا فى دقائق قليلة عابرة تمر كما يمر السحاب ..
ان المدينة قديمة وعمرها أكثر من 800 سنة وعديمة النظير فى الاتساع ورقعتها الرحبة تجعلك تحس وأنت تمشى بين ربوعها كأنك تتحرك فى ضاحية قليلة السكان ..
فى أشد ساعات النهار والليل حركة ، وهى وقت انتهاء العمل فى المكاتب ، تشعر بحركة على الأرصفة وفى الأنفاق ، الرجال والنساء فى المعاطف والشيلان ، وبأيديهم القفازات ، يسرعون إلى محلات الأغذية للتسوق .. ويقفون على محطات الأتوبيس والتروللى والترام فى طوابير ، أو يهبطون إلى المترو تحت الأرض على السلالم الكهربائية فى حركة سريعة منتظمة ..
وفى الشتاء تغرق المدينة فى ندف الثلج البيضاء التى تكسو سطوح المنازل ، وتغطى فروع الأشجار ، وأسلاك الكهرباء وتملأ جانبى الطريق بكتل بيضاء كندف القطن ..
وفى هذه الدوامة الثلجية يظل وسط الشارع ، وطريق المرور ، أسود لامعا أشبه ببساط الحرير ، لأن الجرافات جرفته وتظل تجرفه كلما سقط الثلج وتناثر ..
وفى الليل ترى المدينة تتلألأ بالأنوار القوية الزاهية .. تحس بها كأنها تسبح فى بحر لجى من النور ليس له نهاية ..
ان الليل هناك جميل وممتع ، وعندما تتساقط قطع الثلج البيضاء ، وتغطى كل شىء حولك يغدو النور أكثر بهجة ، وأشد اشعاعا وأمتع للناظر وأجمل ..
والثلج الذى يتراكم فى الشارع يصبح كالرمل الأبيض الناعم الذى يغوص فيه القدم .. ولكنه يسهل التخلص منه بسهولة كما يسهل السير فيه ..
وإذا غطى معطفك أو حذاءك ، فانك تنفضه فى ثوان ، ويعود كل شىء كما كان .
***
قصر الكريملين
ان موسكو التى بها بيت " تشيكوف " ومنزل " تولستوى " كما فيها " قصر الكرملين " تعد أعظم مدينة روسية على الاطلاق ..
بل هى أجمل وأنظف مدينة فى أوربا قاطبة ..
مدينة واسعة ضخمة تبسط ذراعيها فى الطول والعرض إلى أقصاهما .. وتحس مع التنافر فى مبانيها ، وعدم التناسق فى عماراتها .. أنها قامت لتكون هكذا من طراز فريد نادر المثال ..
ان لون المبانى يختلف جدا حتى فى الشارع الواحد .. فمن أصفر إلى برتقالى .. ثم أحمر .. ثم إلى سنجابى .. ثم أبيض مشربا بالزرقة .. وناصع البياض ..
فندق أوكرانيا
ان فندق " اوكرانيا " الذى شاهدته عن قرب .. وهو طراز فريد فى فن العمارة ، له ستة نظائر أخرى من طرازه فى المدينة ..
وما أكثر الفنادق الحديثة الطراز هناك ، وأحدثها جميعا فندق " روسيا " الضخم الذى يضم بين جنباته 5700 حجرة على أحدث طراز للفنادق ..
ولكن " أوكرانيا " القديم يفوقه فخامة وروعة .. انه طراز فريد لايأتى بمثله مهندس فى فن العمارة ..
انه شامخ ، وتشعر وأنت تلج حجراته ، انك تعيش فى عهد الفخامة المعمارية أيام القياصرة ..
النظام الصارم
ان الطابع العام لموسكو هو النظام .. والطوابير فى كل مكان .. طوابير على محطات الأتوبيس ، وطوابير فى المتاجر .. وطوابير على شبابيك المسارح والملاهى .. وطوابير على المقاصف " البوفيهات " التى تقدم المشروبات الساخنة والطعام الخفيف ، طوابير راضية بالنظام لأنها تعودت عليه وألفته ، واستراحت إليه ..
وفى الجوم Gum " المتجر الكبير " حاول المرافق الروسى أن يتخطى مكانه من الصف لأنه يرافق ضيوفا .. فثار عليه الجمهور وأرجعه إلى مكانه ..
وقد أعجبتنى هذه اليقظة والتمسك بالنظام ..
وفى " الجوم " كل ما يبغيه الإنسان من الإبرة إلى الصاروخ كما يقولون ، وهو بناء ضخم من طراز قديم تتوه فيه وتضل فى طرقاته ، ولا مبالغة فى هذا القول ..
وهو شديد الزحام ، ويمكنك على مدى ساعة واحدة أن ترى فى طرقاته كل الوجوه والسحن الروسية .. ويدخل من أبوابه 85 مليون شخص على الأقل فى الشهر الواحد ..
وترى فيه النساء ضعف عدد الرجال ، وهن يتزاحمن بالمناكب ، ويمشين فى سرعة ، وكلهن فى المعاطف الثقيلة ، وعلى رءوسهن القبعات الزرقاء والشهباء ، مما يكسبهن أناقة وحسنا ..
وجمال الروسية أشد ما يكون فى صفاء عينيها .. وما فيهما من بريق مشع ، وجاذبية آسرة ، وفيهما الزرقة والخضرة .. ولون الياقوت ولون الزبرجد ، وترى فيهما الشهوة ، كما ترى فيهما البراءة والصفاء النادر ..
والعاملات فى " الجوم " وفى غيره من المتاجر لايعرفن غير الروسية ، والتفاهم معهن صعب ولا تنفع الإشارة فى كل الأحوال ..
والإنسان الذى يجيد ثلاث لغات قد يعتز بنفسه ويغتر .. ولكنه عندما يذهب إلى روسيا يشعر بالنقص الشديد ، ويشعر بأن الحياة العصرية تقتضيه بأن يجيد سبع لغات على الأقل ، والمرء يقف حائرا فى بهو الفندق ، وهو يسمع لغات كثيرة لايعرفها ولا يفهمها ، ويشعر بالأسف .. وقد تكون الأسبانية حيث عاش العرب وأوجدوا حضارة عظيمة ..
وفى نهار طلعت شمسه .. توجهت إلى مكتبة كبيرة لأشترى صورا " لتشيكوف " وراعنى النظام والتنسيق ، ورخص أسعار الكتب ، والزحام الشديد فى المكتبة ، فالروسى قارىء نهم ليس له ضريب .
الشمس الخادعة
لما فتح باب الطائرة ، ووقفنا على السلم ، كانت الشمس فى موسكو مشرقة ، وتبدو للناظر أنها حامية .. فقد كنا فى منتصف النهار ، ولكن بعد أن تهبط درجة واحدة على السلم تحس بأن سيفا حاميا من البرد يجز عنقك .. برد لايوصف عشرون درجة تحت الصفر تواجهك مرة واحدة ، دون تدرج ، فمن التكييف والجو الساخن فى داخل الطائرة ، إلى الزمهرير القاتل فى الخارج ..
وتهبط السلم فى هذا الجو القارس ، ولكنك لاتمضى طويلا إذ أن بناء المطار قريب ..
وتدخل فى ساحة رحبة مكيفة وأنيقة وتمر ببوليس المطار " الجوازات " وهم جميعا من الشباب فى سن متقاربة ، وملابسهم زرقاء فاتحة ، وأنيقة للغاية .. ووجوههم وسيمة .. ويأخذ منك جواز السفر ويدون ما عليه فى صمت ودقة .. ثم يفتح لك الباب بحركة أوتوماتيكية .. واحد .. واحد..
وفى الجمرك تجد السماحة .. فلم تفتح حقيبة واحدة ..
وعلى باب الخروج يواجهك البرد العاصف مرة أخرى ، وترى الثلج يغطى الأرصفة والحدائق ، ويعلق بأوراق الشجر ولكنك لاتراه فى وسط الطريق ..
وتركب سيارة مكيفة ، وتمرق بك فى طريق لاحب ، وسط الثلوج ، والسماء الشهباء ، والبيوت مختلف الوانها .. ودخان المصانع تراه من بعيد يتلوى ثم يذهب بددا .. ويذوب فى البرودة الشديدة ..
وتقترب من المدينة الضخمة .. بعد نصف ساعة من السير السريع الذى لاتعترضه علامات المرور إلا قليلا ، ولا تشاهد شخصا يعبر الشارع .. فالعبور من الأنفاق ، وتلاحظ اتساع الشوارع ، واختلاف الوان المبانى وتباين طرازها .. وترى المتاجر على الصفين ، ولكن طريقة عرض البضائع لاتجعلك تستطيع أن تميزها من بعيد .. ولا تغريك عن قرب .. انها طريقة ليس فيها فن العرض ولا روعته .. فهى لاتجذب العابر ، ولا تشده إلى الدخول فى المتجر ..
وتدخل المتجر كأنك تدخل بيتا .. وتصعد سلالم أربعة أو خمسة وتدفع الباب ، وبعده تجد بابا آخر ، وتحس بعد الباب الثانى بالدفء .. والدكاكين كلها مكيفة الهواء .. وفى كل قسم خزانة ، ولكنك ستلاقى المتاعب الجمة إذا كنت لاتعرف الروسية .. لأنك لاتستطيع التفاهم مع العاملات ..
وترى الزحام فى داخل المتاجر .. فى الليل والنهار .. فالجمهور يرتادها بكثرة بعد ساعات العمل ..
الفندق الكبير
الفندق الكبير
ومن المطار إلى الفندق .. فندق كبير من ثلاثين طابقا .. طراز قديم ولكنه رائع ..
وفى الفندق الكبير عدة مصاعد .. تعمل فيها شابات جميلات وقليل منهن من تعرف لغة غير الروسية .. وكلهن أنيقات الملبس .. وفى كل مصعد كرسى عال للفتاة وتليفون ومروحة كبيرة ..
عاملة المصعد :
وذات صباح ركبت المصعد وكان خاليا من النزلاء .. وكانت العاملة فى هذه الساعة ذهبية الشعر جميلة المحيا وكنت أراها لأول مرة فأعجبت بحسنها وأناقتها ورقة صوتها .
وقلت لها وأنا داخل بالإنجليزية :
ـ التاسع ..
وفتحت أصابع يدى التسعة مع لفظة " نين "
وسألتها بعد أن تحرك المصعد
ـ أتعرفين الإنجليزية أو الفرنسية ..؟
ـ الروسية فقط ..
وابتسمت
فقلت لها وأنا أشير إلى شعرها :
وكيف أقول لك .. ان شعرك هو أجمل شعر رأيته فى موسكو ..
ففهمت وجعلها الاطراء تضحك وتزداد جمالا .. وظلت صامتة ..
وبعد أن وصلنا إلى الطابق التاسع وفتحت الباب .. أشارت بيدها وعبرت بملامحها ما معناه :
ـ قل هذا بأية لغة .. فإنه كلام حلو ..
وقد رأيت هذه الفتاة بعد أن أنهت ساعات العمل .. تتناول من عامل المعاطف فى مدخل الفندق معطفها المكلف بالفراء الثمين وتخرج من الباب كأجمل الفاتنات .
وإلى جانب عاملات المصاعد فى الفندق .. يوجد عاملات الغرف .. الخادمات اللواتى يقمن بتنظيف الغرف واعداد الفراش .. وهن جميعا فوق الأربعين وسمينات وقصيرات الأجسام .. ولكنهن يعملن بنشاط عجيب وعناية بالنظافة تجعلك تذهل .. وقد وجدت ثلاث منهن يقمن بتنظيف غرفة واحدة .. وكل واحدة تقوم بعمل معين .
والنساء فى روسيا .. يعملن فى الفنادق .. ويجرفن الثلوج فى الشوارع فى الليل الشديد البرودة .. ويعملن فى المسارح والمتاجر والمطاعم .. وفى المقاصف .. وفى المطارات وفى كل مكان .. وتختار لهن الوظائف .. وحتى العجائز .. وجدتهن يعملن فى المتاحف وفى بيوت الأدباء والفنانين .. وفى بيت تولستوى.. وبيت تشيكوف .. وبيت بوشكين .. وفى الأرميتاج هن الحراس على هذه الكنوز .
تنسيق رائع والكل يعمل كخلية النحل ..
المترو تحت الأرض
وقفنا عند باب الفندق الدوار فى تردد ووجل ، ثم واجهنا العاصفة الثلجية ، وذهبنا بالسيارة إلى أقرب محطة مترو تحت الأرض .
وكانت الدليلة سيدة فى الخامسة والثلاثين من عمرها نحيفة القوام متوسطة الطول ، تضع نظارة على عينيها الورقاوين ومتدثرة بمعطف وكوفية وتتحدث بالإنجليزية كأنها متخرجة من أكسفورد ولكنة انجليزية خالصة .
الميدان الأحمر
ومرت السيارة على الميدان الأحمر ، والكرملين .. وكان البرد شديدا ، وخرجنا من السيارة لتشرح لنا الدليلة ما يحيط بنا ، وتقول شيئا من التاريخ ، فرأينا الجموع واقفة فى طابور طويل ، طويل تحت الثلج لتزور قبر " لينين " .
قصر الكريملين
ودرنا دورة بالسيارة ثم هبطنا إلى محطة المترو وبخمسة كوبيات فقط تسيح وتسيح فى الأنفاق .
ان المترو على انخفاض 50 مترا تحت سطح الأرض وهو مفخرة المدينة التى ليس بعدها مفاخر .. 27 محطة ، وكل محطة لها لون وطعم .. وطرازها الفريد فى الزخرفة والنقش والبناء ..
مترو يقطع 60 كيلو متر بطول المدينة .. وتراه بعرباته الزرقاء وكراسيه الجلدية الفاخرة ومقابضه المعدنية وحمالاته كأنه خارج من المصنع .
نظافة وأناقة ليس لها نظير فى كل ما تركب فى الدنيا من عربة تسير بالكهرباء .
وإذا نزلت منه فى أى محطة تجد الجمال المجسم فى الرسوم على الحيطان .. والمرمر والرخام من كل الألوان .
وفى كل دقيقة يمر قطار .. حركة سريعة وجميلة .. نهر يجرى ويتدفق تحت المدينة ويحمل خمسة ملايين من البشر فى اليوم الواحد إلى أى مكان . ولقد ركبنا عدة قطارات منها فى ساعات الخروج من العمل .. وهى ساعات الزحام .. فلم نر العربات ممتلئة إلا فى القليل منها لكثرة القطارات التى تمر ذاهبة وراجعة ، وسرعة الحركة وتدفقها .
ان المترو يعطيك صورة جميلة لخير ما يمكن أن يعمله الإنسان لراحة أخيه الإنسان .
المطاعم
فى مطاعم موسكو ، ما تشتهيه من الطعام الشرقى والغربى .
وفى المطاعم الفاخرة ترتدى العاملات الزى الأسود القصير إلى ما فوق الركبة ، وهن جميلات ويجدن اللغة الإنجليزية ، ولمرانهن وكثرة ما يمر عليهن من وجوه البشر ، تعودن على الصبر والابتسامة المتكلفة . والروس يقبلون على الطعام بشهية ويأكلون ويشربون كثيرا . ويخطبون فى المآدب وتعجب لفصاحتهم ، كأنهم ولدوا جميعا ليكونوا خطباء .
والمطاعم فى الفنادق الكبيرة لها مواعيد محددة لتناول الغداء .. والعشاء .. ومن فاته الموعد ، يمكن أن يذهب إلى المقصف " البوفيه " فهو مفتوح ولكن فى ساعات محددة أيضا . وفى المقاصف يعرضون الطعام فى أطباق وعلى كل طبق سعره بالروبيل والكوبيك ليسهل على الأجنبى الاختيار ..
وتقوم بالخدمة فى هذه المقاصف فتيات فى زى موحد .
الطبيب
فى كل فندق طبيب .. وهو عادة من الجنس اللطيف .. يسهر على راحة النزلاء ..
كما توجد صيدلية عامرة بكل أصناف الدواء .. والأسعار رخيصة جدا ..
والعلاج بالمجان .. مهما كان نوع المرض
والروس يعمرون طويلا .. ويقال أن للبرودة الشديدة دخل فى ذلك إذ أنها تقتل الميكروبات !!
السياح
فتح الاتحاد السوفيتى أبوابه فى السنين الأخيرة للسياح .. فتشاهد فى الفنادق .. الأمريكى واليابانى .. والأوربى .. والكوبى .. ومن هذا الخليط توجد النساء من كل الألوان !
منزل تشيكوف
First row – M. P. Chekhov , A. P. Chekhov
Second row – A. A. Lyosova , L. S. Mizinova ,
M. P. chekhova , E. Ya. Chekhova Seryozha Kiselyov ;
Third row A. I. Ivanenko , I. P. Chekov , P. E. chekhov
Moscow , spring , 1890
تشيكوف وممثلى مسرحياته
تشيكوف مع اسرته
تشيكوف فى مكتبه فى يالتا
فى الصباح المبكر .. والثلوج تتساقط إتجهنا فى نشاط إلى منـزل " تشيكوف " وكنت منشرح الصدر فقد تحققت لى أمنية عزيزة .
ان أعظم كتاب القصة القصيرة فى العالم أجمع .. كان يعيش فى منزل صغير من طابقين فى قلب موسكو .
البيت يقع فى شارع جانبى ضيق .. ودخلت من بابه الصغير .. والثلج على العتبة إلى القاعة الخارجية وأرضها من الخشب ، أحسست بأنفاس تشيكوف العظيم وأقدامه فى هذه القاعة وهو يديرعينيه بنظرة إنسانية وخطوة متأنية .. ثم يدلف إلى حجرته الخاصة حيث يستقبل الزوار والمرضى ..
انها حجرة صغيرة بها مكتب بسيط .. لاتزال عليه الأدوات التى كان يستعملها تشيكوف فى حياته ..
وفى داخل هذه توجد حجرة أصغر منها .. بها سرير فردى من الحديد العادى ظل فى مكانه كما وضعه صاحبه ..
ولبساطة السرير وما يبدو عليه من خشونه .. فكرت كيف ينام عليه ويشعر بالراحة مثل هذا العبقرى .
وفى الطابق الذى كان للأسرة .. صالة رحبه نوعا .. وحجرتان أكثر اتساعا .. والأرض خشبية والنوافذ ليست متسعة .. وزجاجها على حاله كما هو ..
والبيت وهو من طابقين أشبه ببيت رجل متوسط الحال عندنا .. بناه بعد أن ادخر من قوت يومه على مدى السنين ..
ان تشيكوف الإنسان كان يعيش فى بساطة مطلقة .
وفى الطابق الثانى ترى صورته فى جزيرة فى جزيرة سخالين ونماذج من خطه .. وفى محفظته الخاصة التى كان يضعها فى جيبه صورة صديقه المارد الطويل " تولستوى " ..
كما شاهدنا صورة كبيرة لتشيكوف مع مكسيم غوركى معلقة على الجدران وصورة أخرى مع ممثلى مسرحياته .. ومع تولستوى فى يالتا ..
والفراشة فى بيت تشيكوف وهى فوق السبعين .. استقبلتنا كأنها أمه التى ربته واحتضنته .. وكانت تتحدث عنه بطلاقة وثقافة ولا تخفى عليها خافية من حياته .
منزل تولستوى
تشيكوف وتولستوى
ومن منزل تشيكوف البسيط .. انتقلنا إلى منزل تولستوى الفخم ذى الرياش والكراسى المطعمه والمائدة الحافلة بالأطعمه والتى حولها أحد عشر كرسيا ولا يزال عليها طاقم المائدة الفاخر بأطباقه الصينية المزخرفة وأكوابه وسكاكينه المسكوفية ..
وشممنا ونحن ندخل غرفة المائدة رائحة الطعام الشهى الذى كان يقدمه لضيوفه فى هذه الأطباق ..
وهذا الكاتب الواسع الثراء كان يعنى ببيته عنايه فائقة .. ويعنى بالنظام إلى حد يروعك ..
فهناك :
غرفة مخصصة للزوجه ..
وغرفة للأولاد ..
وغرفة لمربية الأولاد ..
وغرفة لمربى الأولاد ..
وغرفة لكبرى بناته ..
وغرفة لنومه هو ..
وغرفة للجلوس ..
وغرفه لمكتبه الفاخر ..
وشاهدنا المعطف من جلد الدب الذى كان يلبسه فى جولاته .. "
وكان من عادته أن يخرج فى الصباح المبكر من سلم صغير مسروق ليحتطب الخشب ويوزعه على 11 مدخنة فى البيت ، وحبه للجياد .. جعله يحتفظ لنفسه بصورة كبيرة له وهو يمتطى جوادا مطهما ..
السيرك
ان السيرك فى موسكو و " الأوبرا " ومسرح " بولشوى " وغيره مشاهد لامثيل لها فى العالم ، ولكن أجمل ما تقع عليه العين فى هذه الملاهى ، هو أن تجد فيها طابقا بأكمله ومع كل اتساعه قد خصص للمقاصف " البوفيهات "
طابق لونه فى زرقة السماء وجمالها وموائده حافلة بأصناف الطعام والشراب للجمهور فى وقت الاستراحة .
الرحلة إلى ليننجراد
بارحنا موسكو الفخمة ذات الأبراج العالية إلى مدينة أخرى .. إلى ليننجراد .. فى قطار ليننجراد الفريد فى طوله .. وفى ليل يتساقط ثلجه بغزارة وتبلغ البرودة أقصاها .. وعندما يتحرك القطار تظل أنوار موسكو تلمع وتتلألأ ساعة من الزمان .. ثم ندخل فى ضواحى الريف ..
لقد شاهدت من النافذة الريف الروسى نائما .. وصاحيا .. وسمعت فى حظائره نباح الكلاب وكنت أود لو أدخل فى جوفه .. ولا أراه فى الليل من نافذة قطار ..
ونمت فى القطار الجميل .. وحلمت .. ولما فتحت عينى ونظرت من النافذة .. كانت الأنوار لاتزال تتلألأ .. وكنا ندخل ضواحى مدينة ليننجراد ..
فى الساعة التاسعة صباحا .. كانت الأنوار مضاءة فى المدينة ذات الجسور .. وشعرت بطراوة الجو فى المحطة بعد أن خرجنا من القطار .. ولكن البرودة هنا وفى كل الأحوال أخف من برودة موسكو ..
إن الطابع العام للمدينة التاريخية ذات المواقف الباسلة فى الحرب الأخيرة .. الطابع العام لها أنها أوربية الطراز مائة فى المائة .. بيوتها على نسق واحد من طوابق أربعة .. والشوارع واسعة .. والميادين فسيحة .. والنهر يقطعها بقنواته العديدة حتى جعلها ذات الجسور .. فإن فيها 360 جسرا ..
وفى مياهها ترسو السفينة التاريخية " أورورا " التى أطلقت أول قذيفة فى بواكير الثورة عندما انضم البحارة إلى الثوار ..
ولا تزال السفينة راسية هناك قرب الفندق الذى نزلنا فيه .. كأثر تاريخى شامخ والمدفع مصوب .. وكأنك تسمع منه صوت الطلقة ..
وليننجراد تفخر بهذه السفينة .. وبالأرميتاج .. وهو متحف .. تتجول فيه شهرا كاملا .. دون أن تبلغ غايتك مما فيه .. ولا تشبع النظر من روائع الفن العالمى .. ففى قاعاته عمل كامل لروفائيل .. ومثله فى روما قد اندثر .. وبه أكبر مجموعة فى العالم لرسوم " رامبرانت " وأجمل لوحاته وأشهرها على الاطلاق ... ... ... " عودة الابن الضال" ..
وتسبح عيناك فى القصر الرائع الذى شيدته " كاترينا الثانية " وترى فيه ريشة الفنانين العظام فى كل عصور التاريخ .. من ميكائيل انجلو .. إلى بوكاسو ..
منزل بوشكين
بوشكين
فى ليننجراد مقابر الأدباء والفنانين العظام .. ديستوفسكى .. وتشايكوفسكى .. وبيت بوشكين .. وهو بيت فخم أنيق من طابقين يضم بين جدرانه 11 غرفة ..
وغرفة الجلوس بالغة الحد فى الأناقة ومقاعدها من خشب البالو .. وبها ساعة فخمة إذا رأيتها تتصور أنها لاتزال تدق .. والبيانو الذى كان الشاعر يعزف عليه كلما شعر بالحنين إلى الموسيقى كان قريبا منه جدا فى غرفة المكتبة .. وعلى الجوانب فى نصف دائرة الكتب مجلدة ومنسقة تنسيقا رائعا ..
وكان بوشكين يستريح فى هذه القاعة كلما شعر بالتعب على كنبة طويلة خضراء مريحة للغاية ..
ويكتب الشعر والقصص على مكتب من خشب الورد صغير وأنيق جدا وذو أربعة أدراج ..
وكان يكتب على سطر مستقيم مثل تشيكوف كما كان قليل التصحيح وخطه جيد وواسع ..
والدواة التى كان يستعملها فى الكتابة عبارة عن تمثال نادر الصنع ..
كان متأنقا فى بيته وفى كتبه .. ومنظما للغاية ..
فالجرس الصغير الذى كان يقرعه للخادمة كلما طلب حاجة .. لايزال على طرف المكتب ..
والشاعر الذى كتب " يفجينى اوتيجين " و " قصص بيكين " و " ابنة الضابط " و " دوبروفسكى " ..
كان فارسا .. ولا يزال السيف التركى الذى استعمله فى المبارزة المشهورة .. والتى بسببها قضى نحبه .. معلقا فى مكانه ..
وآخر ما يشاهده السائح فى بيته صورة طبيعية له وهو على فراش الموت .. رسمها له الرسام المشهور " كازلوفا " عام 1837
وتمثال لوجه بوشكين من الشمع أخذ وهو فى نزعه الأخير ..
... أنا دوبروفسكى ...
وندت عن ماريا كيريليوفنا صرخة ...
" لا تخافى أرجوك .. لا تخافى من اسمى ..
نعم إننى ذلك التعيس الذى حرمه والدك كسرة الخبز وطرده من بيت أبيه ودفعه إلى نهب المسافرين فى الطرق .. ولكن لا داعى للخوف منى على نفسك أو عليه .. لقد انتهى كل شىء .. سامحته .. اسمعى أنت التى أنقذته .. فقد قدر له أن يكون أول ضحية مأترة دموية أقوم بها .. كنت أسير بجوار منزله محددا من أين سأبدأ الحريق .. ومن أين أدخل غرفة نومه .. وكيف أسد عليه جميع سبل الهرب .. وفى تلك اللحظة مررت أنت بجوارى كطيف سماوى فاطمأن قلبى .. وأدركت أن المنزل الذى تعيشين فيه مقدس .. وأن أى إنسان تربطه بك روابط الدم لا يمكن أن تحل به لعنتى " ..
صفحة من رواية دوبروفسكى ـ ترجمة " حسين بكر " دار التقدم موسكو ..
جامعة ليننجراد ومقامات الهمزانى
وفى جامعة ليننجراد استقبلتنا الدكتورة أولجا فرلوفا التى زارت مصر وترجمت الكثير من الأدب العربى قديمه وحديثه إلى اللغة الروسية ..
وهذه السيدة الكبيرة فى السن والمقام .. كانت فى صف الجنود الذين استبسلوا فى الدفاع عن مدينتهم ليننجراد عندما حاصرها الألمان .. ومنحت أرفع وسام ..
هذه الدكتورة فى الأدب .. التى كانت تمسك ذات يوم فى يدها بالمدفع الرشاش بدل القلم .. استقبلتنا بالترحاب والمودة على أبواب الجامعة .. وقادتنا إلى القسم الشرقى .. حيث وجدنا العناية الفائقة بدراسة الأدب العربى قديمه وحديثه .. ونقله إلى اللغة الروسية فى طبعات أنيقة فاخرة ..
وجدنا ترجمات لمقامات الحريرى .. ومقامات الهمذانى .. ومقدمة ابن خلود .. وغيرها .. وترجمات للأدب العربى الحديث من رواية ومسرحية وقصة قصيرة ..
مقامات الحريرى فى جورجيا
تبليسى Tibilisi عاصمة جورجيا الروسية .. دخلناها فى الليل والثلج يتساقط بغزارة والبرودة شديدة .. مع أنها من أدفأ المناطق فى روسيا .. ولكن جوها انقلب فجأة أصبحت تثلج كغيرها من المدن .. لتصبح فى حرارة المدن الأخرى ..
والفندق جديد وشامخ .. والعاملات فيه جميعا من العجائز السمينات .. ولا يعرفن كلمة واحدة غير الروسية .. يفهمن بالإشارة .. وإن طال الحوار ..
والمدينة الكبيرة تتلألأ فى الليل على التلال الصاعدة والهابطة ..
وهناك نهر " كورا " يتلوى وقد تجمدت مياهة فى بعض الأماكن .. وانسابت فى أخرى ..
وتحت الأنوار الساطعة تبدو من بعيد بيوت قديمة على التلال بشرفاتها الخشبية .. وقد تغطت أسطحها بالثلوج ..
والضوء يتلألأ من كل هذه الأماكن .. من البيوت القديمة والحديثة .. كحبات الزمرد والياقوت .. كل مكان بلونه .. متى انعكس عليها السحاب الأرجوانى أو انقشع ..
وأنفاس الناس تزفر فى الليل بالحرارة والدفء رغم برودة الجو وصقيعه ..
وفى الصباح أشرقت الشمس دافئة فتغلبت على الجو المكيف فى حجرة الفندق ..
ونزلنا إلى بهو الفندق .. فوجدنا فى انتظارنا أديبا فاضلا من أدباء جورجيا .. جاء يرحب بنا تصحبه ابنته التى تجيد العربية كمترجمة ودليلة وتجولنا فى عربته الخاصة شرقا وغربا حتى بلغنا القرية التى ولد فيها " ستالين " وأخجلنا الرجل بسماحته وكرمه وتفانيه فى خدمتنا وتيسيير سبل الراحة لنا ..
ودعانا الأديب للعشاء فى بيته .. وكان هذا البيت هو أول بيت روسى أدخله فوجدت شقة جميلة من أربع غرف فسيحة وبها أثاث أنيق .. والشقة تقع فى الدور الثانى من عمارة سكنية ..
وأسرة الأديب مكونة من خمسة أشخاص .. هو رب الأسرة .. وزوجته طبيبة وابنته الكبرى معيدة فى معهد الاستشراق فى تبليسى والصغرى موسيقية .. والابن وهو الأصغر لا يزال فى الدراسة الجامعية .. وقد لاحظت أن نصف حنان الأم يتجه إلى الابن .. لأنه الأصغر ولأنه صبى .. فالطبيعة البشرية واحدة فى كل مكان ..
والأسرة جميعها تحب الموسيقى .. وكانت مكتبة الأديب حافلة بالاسطوانات الموسيقية وكتب الأدب ..
وعلى مائدة العشاء عزموا على سائق السيارة .. وجلس ليتعشى معنا .. ولكنه لم يذق الخمر .. وقد سألناه عن السبب .. فقال أنه لا يشرب لأنه سائق ..
فلم أستغرب براعته فى السواقة وسط الجليد والعواصف الثلجية رغم أنه فوق الستين ..
وتبليسى مدينة هادئة وجميلة .. وقد دخلها العرب وعاشوا فيها 300 سنة ولا تزال آثارهم ومعالمهم بادية فيها .. وهى قريبة من تركيا ..
وزرنا مسجدا فى أعلى التلال بالمدينة ومنطقة يسكنها المسلمون ورحبوا بنا بقلوب حارة ..
***
وعاش تولستوى فى تبليسى .. كما عاش مكسيم جوركى وكتب فيها أول قصة له .. وكذلك عاش موسيقار روسيا العظيم تشايكوفسكى ..
اكاديمية الاستشراق
أكاديمية الاستشراق فى تبليسى هى من أبرز الأماكن فى المدينة .. ورئيس الأكاديمية أستاذ مستشرق يجيد النطق بالعربية اجادة أذهلتنا .. ليس فى لسانه لكنة المستشرقين ..
وهذا العالم الفذ الذى يبدو عليه التواضع الجم الذى هو سمة العلماء الكبار .. ولقد رأيت مثل هذا التواضع بكل صفاته منذ سنوات .. فى كبار الأطباء اليابانيين وأدبائهم فلم أستغرب ما لمسته من هذا الرجل ..
والأكاديمية تعنى بترجمة التراث العربى إلى اللغة الروسية ولغة جورجيا .. فترجمت مقامات الحريرى .. ومقامات الهمذانى كما ترجمت " معجم البلدان لياقوت " وكتاب " الف ليلة وليلة " ..
وغير هذا كثير ..
ولديها مخطوطات نادرة لا يوجد لها مثيل فى أية أكاديمية أخرى ..
وقد أهدانا رئيس الأكاديمية بعض الكتب الأدبية .. وجلس معنا فى حلقة دائرة مع أساتذة الأكاديمية من رجال ونساء .. نتحدث فى شئون الأدب .. وقدم لنا نوعا من مطبوعاتهم وهى مجلدة وأنيقة ..
وهم يعتزون بشاعر جورجيا " رستافيلى " وبرسام مشهور " جودياشنيلى " وله معارض من لوحاته فى باريس وغيرها من مدن العالم الخارجى ..
الروسى قارىء نهم
الروسى قارىء نهم
الروسى يقرأ بنهم فى كل مكان .. فقد رأيته يقرأ فى الأتوبيس .. والمترو .. وفى الحديقة العامة .. وفى الأرميتاج .. وفى القطار ..
وعندما كنا نترك سائق السيارة .. لنزور جامعة .. أو متحفا .. أو نلج مسرحا .. كنت أراه عند العودة مستغرقا فى القراءة ..
والروسى يحب المسرح .. كما يحب السيرك والباليه .. ويقف فى طوابير طويلة أمام الشباك ليحصل على التذكرة ..
وقد تجد فى وجه الروسى الذى حضر الحرب العالمية الثانية وذاق مرارتها وما فيها من فظاعة .. قد تجد فى وجهه الصمت وبعض الجهامة .. ولكن الروسى الشاب متفتح وضاحك ومرح إلى أقصى مدى .. وتجد فى الروس عموما المودة والألفة والتفتح للغريب .. وهى طباع شرقية خالصة وهو يحب النظام ويعشق الأدب ..
ستالين الشاعر
ستالين الشاعر
وفى عصر يوم وكان الثلج لايزال يتساقط .. قصدنا " جورى " قرية ستالين فى جورجيا ومسقط رأسه ..
قرية صغيرة وهادئة وبيوتها واطئة وهى على مبعدة 45 كيلو مترا من تبليسى ودخلنا دار " ستالين " يعنى غرفته الصغيرة البسيطة التى ولد فيها وعاش هو وأخوته وأمه .. ولايزال السرير الذى كانوا ينامون عليه جميعا .. باقيا كما هو .. والمنضدة الصغيرة ومصباح الغاز .. وصندوق الملابس ولا شىء آخر ..
كانت أسرة " ستالين " تستأجر هذه الغرفة من صاحب البيت الذى كان يعيش فى غرفة ملاصقة لأسرة " ستالين " ..
وكان والد " ستالين " اسكافيا .. فقيرا معدما ..
وعاش " ستالين " فى هذه الغرفة الصغيرة الفقيرة حتى شب وأصبح رجلا .. وأمسك بيده كل الزمام ..
وتغلب بصلابته وعقله على أكبر قوة عسكرية ميكانيكية فى تاريخ الحروب .. وحول الانكسار إلى انتصار باهر ..
وكان الرجل السياسى .. شاعرا وأديبا .. وترجم أشعار شاعر جورجيا المشهور " شوتا رستافيلى " من الجورجية إلى الروسية ..
وكان يحرر جريدة .. الشرارة وجريدة .. النجمة .. وجريدة برافدا ..
وعندما عرض عليه الألمان .. أن يفدى ابنه الحيد الذى كان فى الأسر .. بالجنرال باولوس .. القائد الألمانى المشهور ..
رفض وقال :
ـ إن ابنى جندى عادى .. فكيف أبادل جنديا بجنرال .. ؟
ومات ابنه فى الأسر ..
وفى تاريخ ميلاده السبعين 1949 وبعد الانتصار طبعا .. فلا أحد يفكر فى المهزوم .. وصلته هدايا من جميع أنحاء العالم .. ولكنه أعطى كل هذه الهدايا للدولة ..
اتحاد الكتاب
اتحاد الكتاب فى الاتحاد السوفيتى يضم الآلاف من الأدباء .. الشبان والشيوخ .. واشتراك العضو رمزى .. " روبلان " فى السنة يعنى ما يقرب من الجنيه الواحد ..
ولهم مطاعم كبيرة .. ومتعددة ومستشفيات خاصة بهم .. ومخازن للبقالة .. وأندية ..
وتعنى الدولة بالأدب والأدباء عناية كبيرة ..
القهوة التركية فى فندق أوكرانيا
فندق أوكرانيا
بقلم : محمود البدوى
سافرت سنة 1973 فى بعثة ثقافية إلى تفليس .. بصحبة ثلاثة من كرام الصحاب .. شاعرين نابغين .. محمود حسن اسماعيل وصلاح عبد الصبور .. ثم الأديب الفنان صاحب كتابى حلمى مراد ..
وسافرنا فى شهر ديسمبر وانحصر تفكيرنا .. ونحن نسافر إلى روسيا فى زمهرير البرد والثلج ، وفى درجة حرارة 30 و 40 تحت الصفر .. انحصر تفكيرنا فى شىء واحد .. القهوة .. فكلنا أصحاب أسفار ورحالة ، وسبق أن ذقنا الأمرين من القهوة السوداء فى ربوع أوربا ..
وهى القهوة التى لاطعم لها ولا مذاق فى حلوقنا ، واذا اجتمع مع سوء المذاق .. رداءة نوع البن كانت الطامة الكبرى .. وأصبحنا كأننا نشرب العلقم !..
وكان المرحوم محمود حسن اسماعيل .. مدمن قهوة مثلى وكذلك صلاح .. ولكنه أخف منا وطأة .. أما حلمى مراد ، فهو شريب شـاى ، ولذلك خرج بمزاجه عن الصحبة ..
واتفقنا على أن أحمل معى البن من " الكحكيين " والكنكة والسكر .. ويحمل محمود .. وصـلاح .. الجهاز الكهربى الصغير الذى سنصنع عليه القهوة ..
وحملنا هذه الأشياء فعلا وحرصنا على وجودها قبل المعطف الثقيل ، والكوفية الصوف ، وغطاء الرأس المضفر ..
وهبطت بنا الطائرة فى موسكو .. والشمس طالعة ، ولكن البرد بكل ثقله كان يجز الرؤوس بضربة حادة وسريعة من العنق العارى كما يجز منجل الصاد .. وإذا كنت ريفيا مثلى ستعرف معنى هذا التعبير !..
وأنزلونا فى فندق أوكرانيا .. أجمل وأعرق الفنادق فى المدينة ..
وبعد الغداء .. وجلوسنا فى البهو الخارجى للطابق الذى نزلنا فيه .. فكرنا فى القهوة .. وأخرجت من حقيبتى الصغيرة .. الكنكة والبن والسكر .. أخرج محمود حسن اسماعيل الجهاز وكان كل واحد منا ينـزل فى غرفة بحمامها .. ولأن محمود حسن اسماعيل .. كان أكبرنا سنا .. فقد اخترنا أن نشرب القهوة فى غرفته ..
وعمرنا الكنكة .. وأمسكنا بالجهاز وحاولنا وضع الفيشة فى البريزة التى يوضع فيها جهاز الراديو فلم توافق حجمها كانت الفيشة أصغر ..
فذهبنا إلى الحمام فكان الأمر كذلك .. فرحنا إلى غرفة صلاح ثم غرفتى .. فإذا بالحال كما هو فالعدد الكهربائية كلها فى حجم واحد فى كل الغرف والحمامات ..
واستأنا كثيرا وبلغ بنا الضيق منتهاه .. وفكرنا فى تغيير " الفيشة " ونشترى واحدة أصغر من أى متجر يبيع هذه الأدوات ..
وكان المرافق بعربته لايزال موجودا فى الفندق فخرج معنا إلى الطريق .. ولكنا لم نصل إلى حل ورجعنا آسفين ..
ولكنا لم نيأس .. وبغير القهوة سيشل تفكيرنا تماما .. ويصيبنا الصداع المزمن ..
وسرح محمود حسن اسماعيل رحمه الله .. وراح فى الغيبوبة التى تنتابه عندما يأتيه هاجس الشعر ..
ثم برقت عيناه واحمرت .. وسألنا :
- معاكم كولونيا .. زجاجة كبيرة ..
- معنا ..
- وقطن ..؟
- من الأجزخانة .. هى داخل الفندق ..
وحملنا الكولونيا والقطن إلى الحمام وجهزت الكنكة .. وأنا أستغرب مما سيحدث ولا أفهم شيئا ..
ووقفنا أمام الحوض الصينى الكبير وغمر محمود حسن اسماعيل القطن بالكولونيا .. وأشعل النار فى القطن الموضوع فى الحوض .. ووضع عليه الكنكة ..
وشربنا ثلاثتنا الذ قهوة وأحلاها مذاقا ..
ونظرنا مبهورين ..
قهوة تركية بوش ودسم .. تطيب للشاربين على النار المعطرة ..
وظل الحال كذلك طوال الأيام السبعة فى موسكو .. وقد أشعلنا كثيرا من القطن وأفرغنا الكثير من زجاجات الكولونيا ولكن مزاجنا كان صافيا ..
ومن الغريب أن الحوض الصينى لم يتأثر مطلقا بالنار .. على لمعانه الشديد وبياضه الناصع ..
وعندما ذهبنـا إلى ليننغراد كانت جعبتنا من البن والسكر قد فرغت ..
ولكن جارة فنلندية أشفقت على حالنا .. وسقتنا من يدها القهوة التركية الممزوجة بالشهد ..
====================================
نشرت فى مجلة عالم القصة ـ العدد التاسع ـ يوليو وأغسطس 1982
====================================
قصة القطار الأزرق
قصة محمود البدوى
التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..
ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .
وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .
وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!
وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .
وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا ..
وسمــعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
ـ تعال come .. بالإنجليزية ..
فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .
قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..
وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..
وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..
ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..
وقالت " نادية " بعذوبة :
ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
ـ الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..
وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..
ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..
وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..
وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .
ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .
وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..
وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..
وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..
وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..
ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..
ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته ..
كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..
وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..
***
وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..
ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .
وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .
ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .
***
وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..
وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..
وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..
وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..
وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..
وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..
فقلت معقبا :
ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..
وسلطت الكاميرا عليه ..
فسألت نادية :
ـ هل ستظهر الصورة ..؟
ـ أرجو هذا ..
وخـيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..
وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..
وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :
ـ جميلة .. ؟ !
ـ جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
ـ شكرا أننى مستريحة هنا ..
وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..
وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..
ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
ـ أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
ـ ولكنى سأحاول ..
وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..
وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..
وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .
وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..
كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..
فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..
وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..
وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
ـ لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟
وكنت أجيبها :
ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
ـ هل أنت بخيل ..؟
ـ جدا ..!
ـ إذا سأشترى لك الفيلم ..!
أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .
***
كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .
وقالت برقة :
ـ وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
ـ يوما بطوله ..؟
ـ واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..
وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .
وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .
وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. ابراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..
***
وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..
فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا فى الممشى ..
ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى فى الليل كل شىء وراءه .. كان لها فعل السحر فى نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..
وشعرت أنه القطار الذى يطوى الزمن .. ولم أعد فى فترة الأحلام أشعر بشىء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفى ولم أتحرك من مكانى حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها فى هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفى الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت فى هذه اللحظة بأن نادية جزء من كيانى .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجه أم لا .. لأنها لم تسألنى هذا السؤال ..
واستفقت على صوتها :
ـ نرجع ..
وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب فى صفحات المجلات .
سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة فى الطرقة وناولتنى بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة فى القطار !!
وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..
وسألتها عن العرافة :
ـ أين هى ؟
ـ فى العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
ـ وكم الأجر ؟
ـ عشرة دولارات ..
ـ هذا كثير ..
ـ إن الناس تسافر اليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!
وسألت نادية :
ـ هل ترغبين ؟
ـ لا .. أنا أعرف حظى ..!
ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدنى وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان فى حدة وقوة أبصار غريبة كعينى العقاب
وبدت فى جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..
وقلت لنادية :
ـ أدخلى ..
فقالت :
ـ لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..
ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف فى القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب فى الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..
فقالت بالإنجليزية :
ـ دولارات فقط ..!
وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
ـ بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا فى ليننجراد ..
فهمست نادية :
ـ إن منظر المرأة يسحرنى ..
وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
وسألتنى :
ـ من الذى سنقرأ كفه أنت أم هى ؟
ـ أنا ..
ـ اذن تخرج السيدة ..
ـ ليس بيننا أسرار ..
وأصرت على خروجها ..
وناولتها كفى ..
فقالت بصوت هادىء :
ـ يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء فى سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمـرة لهذا اللقــاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..
وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..
وسألت وأنا أرتعش :
والأم ما زالت تعيش ؟
ـ أجل ..
ـ أين ..
ـ فى مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..
وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبينى .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبنى بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسى وخرجت شاحب الوجه .
سألتنى نادية :
ـ ما الذى قالته لك ..؟
ـ لا شىء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..
وفى المقصورة أخذت أحدق فى وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..
وعادت نادية تسأل :
ـ ما الذى قالته لك المرأة ؟
ـ ما الذى تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
ـ أريد أن أسمعها ..
ـ قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرنى ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أننى مصرى لقالت أننا سنهزم إسرائيل فى هذا الشهر
ـ وإذا كنت لاتصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
ـ هذا يحدث لكل إنسان ..
وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام فى القطارات .. وتمددت لتنام هى .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..
ثم سمعت صوتها :
ـ هل نمت ؟
ـ أحاول ذلك ..
ـ متى نصل ليننجراد ؟
ـ فى الساعة الثامنة صباحا ..
ـ وأين سننـزل ..؟
ـ فى فندق ليننجراد ..!
ـ حجزت ؟
ـ أجل ..
وخطر على بالى سؤال ، فقلت لها :
ـ نادية .. هل والدك موجود ..؟
ـ لا .. لقد توفى فى أثناء الحرب ..
ـ وأمك ..؟
ـ تعيش معى فى فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..
ـ وما أسمها ..؟
ـ صفية خير الله ..
وارتعش قلبى ..
وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
ـ إن صورتها معى فى الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
ـ فى الصباح يا نادية .. لاداعى للتعب فى الليل ..
كنت أود أن أعيش فى ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع الفجاءة التى لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كيانى نصفين .. إن القطار الأزرق حملنى عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدرى .. لاشىء ينسى .. وكل ما يحدث فى حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..
لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكارى ، وتعرف هواجسى ، ومشاعرى ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..
وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..
===========================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة اكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى مجموعة عودة الابن الضال 1993
وفى كتاب " قصص من روسيا " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2003
قصة الرنين
قصة مصرية من روسيا
الرنين
قصة محمود البدوى
رن جرس التليفون فى حجرتى بالفندق فى منتصف الليل .. ولم أكن أعرف أحدا فى موسكو .. ولا صلة لى بانسان .. ولذلك تركته يرن .. وبقيت فى الفراش تحت الأغطية الثقيلة ..
وكنا فى صميم الشتاء والثلج يتساقط ، والبرودة تصل إلى 25 درجة تحت الصفر ..
ولما طال الرنين تحركت من مكانى ورفعت السماعة ، فوجدت سيدة على الخط وكانت تتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ..
وقلت :
ـ هالو ..
ـ هالو ..
ـ أى خدمة ..
ـ أى خدمة ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
وهكذا ظلت تردد ورائى كل ما أقوله بلهجة مضحكة ، كانت تنطق الكلمة الإنجليزية خليطا بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية ..
ومع أنها سحبتنى من الفراش وأطارت النوم من عينى ، ولكن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل الساكن وفى هذه الوحدة أشعرنى بالراحة ، فأنا وحيد فى هذه المدينة الكبيرة ، وحيد فى الفندق .. من غير أنيس ولا رفيق .. وقد قضيت أسبوعين على هذه الحالة القاسية ..
ولهذا فإن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل هز مشاعرى ..
كنت أعيش فى حالة كآبة فى داخل الفندق ، ولا أستطيع التجول فى المدينة لشدة البرد القاتل ، وسقوط الثلج ، فإنه من الصعب على شخص لم يتعود على مثل هذه الحياة أن يتجول ..
كانت درجة البرودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر فى بعض الأيام ولا تقل عن 20 درجة فى معظم الأيام ، ولهذا حبست نفسى فى الفندق ..
ولم أكن أخرج إلا نادرا فى مشوار سريع إلى المكتبة العامة ، وأعود منه مغطى كلية بنتف الثلج ..
وفى الليلة التالية ، وفى نفس الساعة عاد الرنين ، تركت الجرس يرن طويلا ثم تناولت السماعة ، وسمعت نفس الصوت يردد ورائى ما أقوله بالحرف الواحد ..
وقلت فى صوت جاف :
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ شىء عجيب ..
ـ شىء عجيب ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ أريد أن أنام ..
ـ أريد أن أنام ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ووضعت السماعة وأنا فى أشد حالات الغيظ .. واستمر الحال على هذا المنوال عشرة أيام متصلة ، ومن العجب اننى كنت أضبط الساعة على رنينها .. فى منتصف الليل بالضبط .. وعندما تتلاقى العقارب الثلاثة كنت أسمع الرنين ..
ومن العجب أننى بعد هذه الأيام العشرة .. أصبحت أحن إلى سماع هذا الصوت ، وأخشى أن ينقطع الرنين .. والإنسان عبد لما تعود عليه .. ويعشق المجهول .. ولقد عشقت صوتها .. كان صوت هذه السيدة جميلا منغما كأنه كروان يغنى على الخط ، كروان يغنى بأعذب الألحان ..
وأصبحت أتصورها من صوتها شابة بين العشرين والخامسة والعشرين .. رشيقة القوام .. شقراء الشعر دعجاء العينين .. صبوحة الوجه .. ولها على الخد الأيسر شامة بحجم العدسة .. وأسنانها بيضاء تفتر عن ثغر جميل خلق للقبل ..
وتظل هذه الصورة فى رأسى مجسمة حية تتحرك ..
***
وفى الصباح وأنا فى طريقى لتناول طعام الافطار فى نفس الطابق الذى فيه حجرتى ..كنت أنظر إلى الأبواب المفتوحة فى الغرف المجاورة لغرفتى .. وألاحظ النساء على الأخص .. الرائحات والغاديات فى الطرقة .. وأسمع الأصوات ، وأحدق فى الوجوه .. لعلى أهتدى إليها ..
***
كان بالغرفة التى على يمين غرفتى ثلاث مضيفات فى شركة الطيران اليابانية .. وكن فى سن متقاربة لا يتجاوزن العشرين .. أنيقات فى زيهن الأزرق وقبعاتهن الصغيرة الزاهية .. وكان نطقهن للإنجليزية بارعا كأنهن إنجليزيات ، فاستبعدتهن تماما من الصورة ..
ثم شقراء بين بين الألمانية والبولندية .. وكانت تقيم وحدها فى الغرفة التى تلى غرفة اليابانيات .. وكانت جامدة الملامح رصينة ، وما أحسب أنها تفكر فى مثل هذا العبث فاستبعدتها أيضا ..
وسيدة هندية خمرية اللون ، طويلة الشعر ، تلبس السارى الهندى ، ومعها زوجها يرافقها ويلازمها ملازمة الظل .. وبعد مشقة سمعت صوتها ونطقها بالإنجليزية فاستبعدتها على التو ..
ثم سيدة روسية نصف .. يعنى فى منتصف العمر .. تشغل الغرفة الرابعة فى نفس الصف ولعلها رسامة جاءت إلى العاصمة فى مهمة عمل .. وهى تتحرك فى ملابس الروسيات الثقيلة ، ومستعدة للثلج وعواصف الشتاء ، وتراها دائما فى معطفها المبطنة بالفرو ووشاحها الصوفى وقبعتها الزرقاء .. تراها دائما فى هذا الزى الكامل فى " الكافتيريا " وفى البهو .. وفى قاعات الاستقبال .. وكانت صارمة الملامح عادة .. ولعلها مهندسة معمار ..
ولم أسمعها تنطق قط بغير اللغة الروسية فاستبعدتها على الفور ..
ثم سيدة عجوز وزوجها الكهل .. ومعهما ابنة شابة ومن حوارهم بالإنجليزية عرفت أنهم من الأمريكان فاستبعدت العجوز وابنتها لنطقهن ..
ثم شابة رأيتها فى الطرقة تتحرك على كرسى بعجل .. وتدفعها أمها .. ولم أسمعها تنطق .. وكانت تقيم هى وأمها فى الحجرة المواجهة لحجرتى .. وكانت الفتاة ضاحكة السن وتحدق بضراوة فى كل الوجوه التى تمر أمامها فى الطرقة بعينين نجلاوين متطلعتين ..
ثم سيدة جديدة فى مقتبل العمر ، رأيتها لأول مرة تضع المفتاح فى الباب المجاور لباب الفتاة الكسيحة .. ولم أسمعها تنطق بأية لغة وكانت صامتة وقلقة ويبدو على وجهها الأسى ..
واستبعدت النزلاء من الرجال الكبار والصغار فى الطابق الذى أقيم فيه وفى كل الطوابق .. فإن أصوات الرجال واضحة فى سمعى ومن السهل تمييزها مهما حاولوا تقليد النساء ..
وهكذا بقيت فى هذا الفندق الضخم أسمع الرنين ولا أهتدى لصاحبته .. وأنتظر " أولجا " لتأخذنى إلى بيت " دستويفسكى " لنطلع على المخطوطات ..
ولكن " أولجا " حبستها الثلوج فى " تفليس " وبقيت فى الفندق أسمع الرنين ..
وبعد تفكير طويل ، وبعد النظر فى كل الوجوه ، حصرت العابثة فى فتاة من عاملات الفندق .. وهى التى تعرف رقم التليفون فى غرفتى وتسلى نفسها فى الليل الطويل بهذا العبث ..
***
وفى قاعة البريد الملحقة بالفندق .. جلست أكتب رسالة " لأولجا " أعرفها بموقفى وحبسى فى الفندق وأغفر لها تأخيرها .. وعدم استطاعتها الحضور .. لأنى أعرف مقدار ما سقط من الثلوج فى قريتها .. وقلت لها بأنى مضطر للعودة إلى موطنى بعد الثامن عشر من يناير .. إن لم تستطع هى الحضور قبل ذلك .. وأعدها بأن أحضر مرة أخرى فى بشائر الصيف ..
وقبل أن أضع الرسالة فى المظروف .. وجدت عينين تحدقان فى وجهى من الكرسى المقابل على نفس المائدة ..
كانت سيدة طويلة نحيفة القوام سوداء الشعر جميلة ناعمة البشرة .. ناعمة البسمة .. وكل ما فيها ناعم رقيق ..
ولكن الوجه بكل ما فيه من جمال وتألق كان قلقا ..
والقلق هو الذى جعلها تحدق فى وجهى لأنها قرأت فيه القلق الذى فى نفسها ..
وتبادلنا بالإنجليزية كلمات قليلة عن الرسائل وطوابع البريد ومتى تفرغ صناديق البريد التى فى داخل الفندق ..
ودون أن توضح لى حالها تماما أدركت أنها تنتظر رجلا .. وأنا انتظر " أولجا " ..
والرجل حبيبها ولكن " أولجا " لم تكن حبيبتى .. أولجا مشرفة على بحث أدبى يشغل وقتى وحياتى ..
***
وأصبحنا نتقابل عرضا دون اتفاق سابق فى المطعم ، وفى ردهات الفندق وفى الصالة الكبيرة وأمام أبواب المصاعد .. وحدثتنى أنها كانت فى الطابق الثالث فلما خلت غرفة فى الطابق التاسع انتقلت إليها .. لأنها تود أن تمتع نفسها بالتطلع إلى المدينة من هذا الارتفاع الشاهق وترى الثلج المتساقط وهو يغطى الشوارع والميادين ويتراكم على أسلاك التليفون والبرق .. وترى العصافير وسط هذا الجوالثلجى وهى تحط آمنة على أغصان الشجر ..
وترى العاملات فى الليل يجرفن الثلوج تحت أنوار المصابيح التى غشاها الثلج فغدت تعكس كل الأضواء التى فى قوس قزح ..
واعتادت أن تستيقظ مبكرة .. كما أفعل .. فنذهب معا إلى " الكافتريا " لتناول طعام الافطار قبل أن يزدحم المكان بالنزلاء .. ونجلس إلى مائدة لا نغيرها ولم يكن بيننا بعد أسبوع من اللقاء المتصل ما يسمى بالحب أو حتى بالصداقة .. وانما كان مجرد ألفة أو لقاء بين غريبين أحسا معا بالأمان فى هذا اللقاء .. وقتل السأم فى محبس الفندق ..
وكان القلق قد أخذ يتبدد تماما .. سواء أقدم الرجل الذى تنتظره أم تخلف .. فإنها قد زارت موسكو كما تزورها كل عام .. وشبعت منها وفى هذا الكفاية ..
وكان الحال كذلك بالنسبة لشخصى فسواء أجاءت " أولجا " أم تخلفت فإنى قد اطلعت فى المكتبة على مافيه الكفاية .. وتكفى زيارة واحدة فى الصيف لانهاء البحث جميعه ..
وفى صباح يوم رأيت الشمس فيه طالعة .. قلت لها :
ـ الشمس اليوم تغرى بالخروج .. فهل ترافقينى إلى " الجوم " ..
ـ بكل سرور .. فى أى ساعة تود ذلك ..؟
ـ بعد الغداء .. والأحسن أن أتلفن لك .. لننزل سويا ..
ـ هذا أحسن .. وخذ رقم تليفونى ..
وقلت لها بعد أن دونت الرقم :
ـ وأنا سأعطيك تليفونى ..
ـ أنا أعرفه ..
فحدقت فيها باندهاش ..
إنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة فهل هى التى كانت تدق علىَّ فى الليل وتغير لهجتها لتخفى شخصيتها .. وإذا لم تكن هى فلماذا انقطع الرنين بعد أن التقينا ..؟
سبحت فى بحر من الغموض .. ومع ذلك فإنه من السهل عليها أن تعرف رقم تليفونى مادامت قد عرفت رقم غرفتى .. وتكفى نظرة سريعة فى دليل الفندق ..
وتحت تأثير هذه الخواطر ، ازدادت رغبتى فى أن أسمع صوتها فى التليفون لأبدد هواجسى .. فلم أطلبها وطلبتنى هى .. وسمعت صوتها .. كان مختلفا تماما عن الصوت الذى أسمعه فى نصف الليل .. ولكن فيه نفس الغنة .. يا لحيرتى ..
***
ذهبنا إلى " الجوم " متلاصقين فى الأتوبيس ولما دخلنا من باب هذه السوق الكبيرة شعرت بالزهو وهى بجانبى بفرائها ووشاحها ورشاقتها وجمال قوامها ..
وعندما كان الزحام الشديد يفرقنا عن بعض .. كانت تبحث عنى والخوف يطل من عينيها .. فسألتها :
ـ لماذا الخوف .. لست بالطفل ..
ـ أخشى أن تتوه .. ولن تجد شخصا يعرف الإنجليزية ويدلك على الطريق إلى الفندق ..
وكان هذا الخوف يدفعها لأن تلتصق بى عندما كان الجمهور يجرفنا فى ممرات السوق الضيقة .. أصبحت تمسك بيدى فى كل خطوة ..
واشترينا القليل .. اشترت وشاحا لبنتها .. وعرفت من هذا أنها متزوجة .. ولم أسألها عن زوجها إن كان حيا أم ميتا ..
وفى مصعد الفندق .. صعدنا وحدنا إلى الطابق التاسع .. وأحسست برغبة شديدة فى أن أقبل عينيها وخديها وثغرها .. وأمرغ وجهى فى صدرها .. وكانت فتاة المصعد لاتحول بيننا وبين فعل ذلك ولا شأن لها بعواطفنا ..
وعلى باب حجرتها أمسكت بيدها طويلا ثم تركتها .. وكأننى أسحب معها قلبى ..
***
وفى نفس الليلة .. وأنا أتناول من عاملة الفندق المفتاح .. وأستدير لأتجه إلى غرفتى فى الطرقة الطويلة .. سمعتها تنادينى بعد بضع خطوات ..
ـ يا مستر مختار ..
ـ نعم ..
ووقفت وحولت وجهى إليها ..
ـ ترك لك شخص هذه الربطة ..
ـ لى أنا ..؟!
ـ أجل .. وقال للمستر مختار فى الغرفة 926 ..
ونظرت فى الربطة فوجدت فيها زجاجة " فودكا " و " خرطوشة " سجائر " كنت " ..
فقلت للعاملة :
ـ هذه ليست لى لأننى لا أدخن ..
ـ ولكنه تركها لك ..
ـ أنا لاأعرف أحدا فى هذه المدينة وليس لى صديق فيها على الاطلاق ..
ـ ولكنها تخصك ..
وكانت واقفة بجانبى فى هذه اللحظة " فتاة الغرف " المختصة بجناحنا .. فمددت يدى إليها بالربطة ..
وقلت بالإنجليزية :
ـ خذى هذه الهدية منى .. مادامت زميلتك تصر على أنها تخصنى ..
فتناولتها الفتاة مسرورة وتضرجت وجنتاها وحييتهما ودخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..
وكان الراديو الصغير الموضوع فى حجرتى يذيع موسيقى شجية تهدى الأعصاب .. فسحبته من مكانه ووضعته على منضدة بجانب الفراش .. ودخلت تحت الأغطية ..
***
وفى أخريات الليل استيقظت على حركة فى داخل الغرفة ..
ووجدت الفتاة التى أعطيتها الهدية تحرك الراديو من مكانه .. وقالت برقة لما وجدتنى قد استيقظت :
ـ لقد تركت الراديو مفتوحا ..
ـ شكرا .. وآسف جدا لقد أزعجت النزلاء ..
ـ لا عليك .. والآن نم هانئا ..
وكانت واقفة بالقرب من الفراش وتحدق وتنظر إلى وجهى بحنان .. فأمسكت بيدها برقة .. وتحركت إلى جانبى ..
ولأول مرة أعرف أن معها مفتاحا آخر لغرفتى ..
=================================
• نشرت قصة " الرنين " فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976 وأعيد نشرها فىكتاب " قصص من روسيا " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى مكتبة مصر ط 2003
================================