الجمعة، ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٧

القهوة التركية فى فندق أوكرانيا


فندق أوكرانيا


القهوة التركية فى فندق أوكرانيا

بقلم : محمود البدوى

سافرت سنة 1973 فى بعثة ثقافية إلى تفليس .. بصحبة ثلاثة من كرام الصحاب .. شاعرين نابغين .. محمود حسن اسماعيل وصلاح عبد الصبور .. ثم الأديب الفنان صاحب كتابى حلمى مراد ..
وسافرنا فى شهر ديسمبر وانحصر تفكيرنا .. ونحن نسافر إلى روسيا فى زمهرير البرد والثلج ، وفى درجة حرارة 30 و 40 تحت الصفر .. انحصر تفكيرنا فى شىء واحد .. القهوة .. فكلنا أصحاب أسفار ورحالة ، وسبق أن ذقنا الأمرين من القهوة السوداء فى ربوع أوربا ..
وهى القهوة التى لاطعم لها ولا مذاق فى حلوقنا ، واذا اجتمع مع سوء المذاق .. رداءة نوع البن كانت الطامة الكبرى .. وأصبحنا كأننا نشرب العلقم !..
وكان المرحوم محمود حسن اسماعيل .. مدمن قهوة مثلى وكذلك صلاح .. ولكنه أخف منا وطأة .. أما حلمى مراد ، فهو شريب شـاى ، ولذلك خرج بمزاجه عن الصحبة ..
واتفقنا على أن أحمل معى البن من " الكحكيين " والكنكة والسكر .. ويحمل محمود .. وصـلاح .. الجهاز الكهربى الصغير الذى سنصنع عليه القهوة ..
وحملنا هذه الأشياء فعلا وحرصنا على وجودها قبل المعطف الثقيل ، والكوفية الصوف ، وغطاء الرأس المضفر ..
وهبطت بنا الطائرة فى موسكو .. والشمس طالعة ، ولكن البرد بكل ثقله كان يجز الرؤوس بضربة حادة وسريعة من العنق العارى كما يجز منجل الصاد .. وإذا كنت ريفيا مثلى ستعرف معنى هذا التعبير !..
وأنزلونا فى فندق أوكرانيا .. أجمل وأعرق الفنادق فى المدينة ..
وبعد الغداء .. وجلوسنا فى البهو الخارجى للطابق الذى نزلنا فيه .. فكرنا فى القهوة .. وأخرجت من حقيبتى الصغيرة .. الكنكة والبن والسكر .. أخرج محمود حسن اسماعيل الجهاز وكان كل واحد منا ينـزل فى غرفة بحمامها .. ولأن محمود حسن اسماعيل .. كان أكبرنا سنا .. فقد اخترنا أن نشرب القهوة فى غرفته ..
وعمرنا الكنكة .. وأمسكنا بالجهاز وحاولنا وضع الفيشة فى البريزة التى يوضع فيها جهاز الراديو فلم توافق حجمها كانت الفيشة أصغر ..
فذهبنا إلى الحمام فكان الأمر كذلك .. فرحنا إلى غرفة صلاح ثم غرفتى .. فإذا بالحال كما هو فالعدد الكهربائية كلها فى حجم واحد فى كل الغرف والحمامات ..
واستأنا كثيرا وبلغ بنا الضيق منتهاه .. وفكرنا فى تغيير " الفيشة " ونشترى واحدة أصغر من أى متجر يبيع هذه الأدوات ..
وكان المرافق بعربته لايزال موجودا فى الفندق فخرج معنا إلى الطريق .. ولكنا لم نصل إلى حل ورجعنا آسفين ..
ولكنا لم نيأس .. وبغير القهوة سيشل تفكيرنا تماما .. ويصيبنا الصداع المزمن ..
وسرح محمود حسن اسماعيل رحمه الله .. وراح فى الغيبوبة التى تنتابه عندما يأتيه هاجس الشعر ..
ثم برقت عيناه واحمرت .. وسألنا :
- معاكم كولونيا .. زجاجة كبيرة ..
- معنا ..
- وقطن ..؟
- من الأجزخانة .. هى داخل الفندق ..
وحملنا الكولونيا والقطن إلى الحمام وجهزت الكنكة .. وأنا أستغرب مما سيحدث ولا أفهم شيئا ..
ووقفنا أمام الحوض الصينى الكبير وغمر محمود حسن اسماعيل القطن بالكولونيا .. وأشعل النار فى القطن الموضوع فى الحوض .. ووضع عليه الكنكة ..
وشربنا ثلاثتنا الذ قهوة وأحلاها مذاقا ..
ونظرنا مبهورين ..
قهوة تركية بوش ودسم .. تطيب للشاربين على النار المعطرة ..
وظل الحال كذلك طوال الأيام السبعة فى موسكو .. وقد أشعلنا كثيرا من القطن وأفرغنا الكثير من زجاجات الكولونيا ولكن مزاجنا كان صافيا ..
ومن الغريب أن الحوض الصينى لم يتأثر مطلقا بالنار .. على لمعانه الشديد وبياضه الناصع ..
وعندما ذهبنـا إلى ليننغراد كانت جعبتنا من البن والسكر قد فرغت ..
ولكن جارة فنلندية أشفقت على حالنا .. وسقتنا من يدها القهوة التركية الممزوجة بالشهد ..
====================================
نشرت فى مجلة عالم القصة ـ العدد التاسع ـ يوليو وأغسطس 1982
====================================

ليست هناك تعليقات: